ورطتنا مع استهزائهم بالنبي!
أشرف إحسان فقيه
لا تملك أن تتحكم في ابتسامتك وأنت تطالع التعليقات على الأزمة في نسختها الثانية. "الحوار مع الدنمارك أثبت فشله" هكذا يستنتج البعض قطعياً.. وكأن (الدنمارك) بأسرها.. أو وحدها.. معنية بالقضية.. وكأن (الحوار) كان خياراً جماهيرياً مقبولاً في الأصل!
بقدر ما نحن منزعجون وغاضبون وثائرون.. بقدر ما نحن أيضاً متورطون وعالقون مع أنفسنا ومع الآخر. بعد سنتين من إحراق الأعلام وتبادل السباب ها نحن نعود لنقطة البداية. الأوروبيون لم ينصاعوا للحوار -الذي لم ينعقد حقاً- ولم يتأثروا بمظاهرات الشوارع ولا حملات المقاطعة التجارية. وحدها تهديدات القتل أتت بنتيجة حاسمة.. عندما ألقت بمطلقيها في غياهب السجون!
وماذا بعد؟ كيف نُفهم هؤلاء، "أولاد الكلب" كما وصفهم برلماني خليجي متحمس، أن يكونوا عن السخرية من مقام النبي الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟ أم هناك خطأ ما في طريقة تعاطينا مع الأزمة هو الذي أدى بها للاستمرار عبر هذه الفترة وللانتعاش مجدداً؟
المثير في النسخة الثانية من هذه الأزمة هو إقرار رؤساء تحرير الصحف الأوروبية بما تمثله الرسومات التي ينشرونها من إساءة لمشاعر المسلمين.. لكن مع تأكيدهم في الوقت ذاته على أنهم لا يسعون لاستفزاز هذه المشاعر! كل ما يناضلون لأجله ويتحملون الضغط والتهديد هو (مبدأ) حرية التعبير كقيمة ديموقراطية عتيدة. هذا التصوير النصف-حقيقي للمسألة هو ما يكسبها أي قدر من التعاطف تحظى به في أي بقعة من العالم.
النصف الآخر للقصة تمثله وجهة نظرنا نحن في هذا الشأن.. والتي يراها الطرف المقابل غير ملزمة. وبين المبدأين تكتمل فصول الأزمة.
بقدر ما كان الرأي العام متفاعلاً وعاكساً لنبض الشارع قبل عامين، فإنه يبدو اليوم صامتاً على نحو مريب. كتّاب الرأي يبدون وكأنهم ملّوا من تناول القضية.. أو أنهم أسقط في أيديهم.. هم ومحللو الأخبار وحتى الساسة وصناع القرار. هل استنفد المسلمون حلولهم؟ أم إنهم اكتشفوا بغتة كم كانوا ساذجين حين رهنوا موقفهم الحضاري بامتناعهم عن تعاطي الزبدة و الـ (سن توب).. حين ثاروا وسخروا من وفود الدعاة المسلمين الذين سافروا إلى (كوبنهاغن) للتحاور وتبادل وجهات النظر؟!
هل تتمثل ورطتنا في عجزنا عن إيضاح وجهة النظر.. بلا إحراق أعلام وبلا قتلى أثناء المظاهرات؟ أم إن مشكلتنا هي في أننا أضعف.. أشد إغراقاً في التخلف والتشرذم.. من أن يقيم أحد شأناً لوجهة نظرنا؟
مثلاً.. وبعيداً عن الدنمارك والعالم الواقعي كله.. تظهر معالم مواجهة أخرى عبر الفضاء الإلكتروني. فمُدخلة Muhammad بالنسخة الإنجليزية لموسوعة Wikipedia الشهيرة تحتوي هي الأخرى على عدد من الرسوم والتصويرات لما يفترض أنه الرسول صلى الله عليه وسلم. صورته يخطب في مجموعة من الناس، رسمة له متلقياً الوحي في صحن الكعبة وتصوير له منهياً الخلاف بين قريش يوم الحجر الأسود.
لا تملك وأنت تتأمل هذه التصويرات إلا أن تتراجع متأملاً في هذه الورطة! ورطة لأن هناك من سيثور ويغضب لنشر هذه الصور أيضا.. ولأن كل الرسوم التي جاءت بها (ويكيبيديا) هذه المرة.. هي رسوم "إسلامية" أصيلة! بمعنى أنها لأعمال فنية من التراث الإسلامي القديم ترجع للقرن الرابع عشر الميلادي.. ورسمتها أيادي (خطاطين) مسلمين ينتمون لذلك الزمان: (رشيد الدين الهمذاني).. (البيروني).. وغيرهما كما توثق الموسوعة ذاتها.
أفعال هؤلاء القدماء تبقى غير مُبرِرة للواقعة.. لكننا نظل مُطالَبين بالتفكير في الأسلوب الذي سنواجه به "الغرب الكافر" في هذا الشأن. عن سلامة وجهة نظرنا حين ننقض عليه بحرمانية هذه الممارسة.. فيما تراثنا الفني يغص بأمثلتها.
في روايته (اسمي أحمر)، يصور الروائي التركي (أورهان باموق) عالم الرسامين والخطاطين في البلاط العثماني. كلام كثير يدور في الرواية عن تصوير "حضرة نبينا"، والبراق، وسوى ذلك من أحداث وشخوص الفترة النبوية. هذه ممارسة دخلت متأخر.. بعد سقوط بغداد في يد التتار ربما.. وجاءت لتضرب عرض الحائط بكل مسلمات الفن الإسلامي حتى تلك الفترة والذي كان مبنياً أصلاً على استكبار تصوير أي من ذوات الأرواح ناهيك عن الذوات النبوية.
ما اللغة التي سيستخدمها الساخطون على (ويكيبيديا)؟ هذه المرة الموضوع يتجاوز منافسات الكاريكاتور الاستفزازية. وهذه ليست حملة يقودها حزب أوروبي يميني.. إنها مدخلات موسوعية مستندة لأعمال أصيلة ومحفوظة في المتاحف والمكتبات. وهي أعمال من رحم ذات الحضارة التي ننتسب لها اليوم وننادي -باسمها- وبكل حسم وقطعية بإتلافها وعدم الرجوع لها أو استعراضها على أي نطاق مستقبلاً.
نفهم هذا كله ونقتنع به ثم نتساءل.. كيف سنقنع (ويكيبيديا) وسواها بأننا على صواب.. وأن (البيروني) ورفاقه ضالون؟ هل نقاطع الإنترنت؟
كيف سنفهمهم بأننا نحن: الغارقين في تهم الإرهاب والديكتاتورية والتخلف الحضاري.. على حق، وأن (السابقين) المنتمين أيضاً لحضارة (النور) كما يسمونها هم ونستشهد نحن بالذات بها لنبرر حقنا في الوجود والمنافسة.. مخطئون.. هنا بالذات في هذه النقطة؟
كيف نبرر كل هذه الحمية في الذب عن الذات النبوية مقابل واقع متشبث بالكاد بالقيم النبوية؟ مقابل واقع لا يمثل الحضارة النبوية كما أريد لها أن تكون؟ لنحمل كل هذه الأسئلة ولنسقطها على مشكلتنا مع الدنمارك وأوروبا كي نحصل على تصور أوضح للأزمة.
التحدي الحقيقي لن يكون في التعبير عن الاستياء.. ولكن في شرح حيثياته.. وفي النجاح في فرضها. هنا بالذات تكمن ورطتنا المستمرة منذ عامين.. وربما ما قبل ذلك بكثير. ويكمن أيضاً حل هذه الأزمة.. الحل الذي لن ينفذ بين ليلة وضحاها.. وقد لا يبصر نتائجه أي منا نحن الأحياء اليوم.
* كاتب سعودي
صحيفة الوطن السعودية 4-3-2008